فصل: سنة سبع وسبعين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر محاربة شبيب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وقتل عثمان بن قطن:

ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وأمره أن ينتخب من الناس ستة آلاف فارس ويسير في طلب شبيب أين كان، ففعل ذلك وسار نحوه، وكتب الحجاج إليه وإلى أصحابه يتهددهم بالقتل والتنكيد إن انهزموا. فوصل عبد الرحمن إلى المدائن، فأتى الجزل يعوده من جراحته، فأوصاه الجزل بالاحتياط وحذره من شبيب وأصحابه وأعطاه فرساً كانت له تسمى الفسيفساء، وكانت لا تجارى، ثم ودعه عبد الرحمن وسار إلى شبيب.
فسار شبيب إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان بالتخوم وقف وقال: هذه أرض الموصل فليقاتلوا عنها. فكتب إليه الحجاج: أما بعد فاطلب شبيباً واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده والسلام.
فخرج عبد الرحمن في أثر شبيب، فكان شبيب يدعه حتى يدنو منه فيبيته فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيتركه ويسير، فيتبعه عبد الرحمن. فإذا بلغ شبيباً مسيره أتاهم وهم سائرون فيجدهم على تعبية فلا يصيب منه غرة، ثم جعل إذا دنا منه عبد الرحمن يسير عشرين فرسخاً أو ما يقاربها فينزل في أرض خشنة غليظة ويتبعه عبد الرحمن، فإذا دنا منه فعل مثل ذلك حتى عذب ذلك الجيش وشق عليه وأحفى دوابهم ولقوا منه كل بلاء، ولم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مر به على خانقين وجلولاء وسامراً، ثم أقبل إلى البيت، وهي من قرى الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر حولايا، وهو في راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل عبد الرحمن في عواقيل من النهر لأنها مثل الخندق.
فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن يقول: إن هذه الأيام عيد لنا ولكم، يعني عيد النحر، فهل لك في الموادعة حتى تمضي هذه الأيام؟ فأجابه إلى ذلك، وكان يحب المطاولة، وكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج: أما بعد فإن عبد الرحمن قد حفر جوخى كلها خندقاً واحداً وكسر خراجها وخلى شبيباً يأكل أهلها، والسلام. فكتب إليه الحجاج يأمره بالمسير إلى الجيش وجعله أميرهم وعزل عنهم عبد الرحمن، وبعث الحجاج إلى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة، وسار عثمان حتى قدم على عبد الرحمن وعسكر الكوفة، فوصل عشية الثلاثاء يوم التروية، فنادى الناس وهو على بغلة: أيها الناس اخرجوا إلى عدوكم. فوثب إليه الناس وقالوا: هذا المساء قد غشينا والناس لم يوطنوا أنفسهم على الحرب، فبت الليلة ثم اخرج على تعبية، وهو يقول: لأناجزنهم فلتكونن الفرصة لي أو لهم. فأتاه عبد الرحمن فأنزله.
وكان شبيب قد نزل ببيعة البت، فأتاه أهلها فقالوا له: أنت ترحم الضعفاء وأهل الذمة ويكلمك من تلي عليه ويشكون إليك فتنظر إليهم، وإن هؤلاء جبابرة لا يكلمون ولا يقبلون العذر، والله لئن بلغهم أنك مقيم في بيعتنا ليقتلننا إذا ارتحلت عنا، فإن رأيت أن تنزل جانب القرية ولا تجعل علينا مقالاً فافعل. فخرج عن البيعة فنزل جانب القرية.
وبات عثمان ليلته كلها يحرض أصحابه، فلما أصبح يوم الأربعاء خرج بالناس كلهم، فاستقبلهم ريح شديدة وغبرة شديدة، فصاح الناس وقالوا له: ننشدك الله أن تخرج بنا والريح علينا. فأقام بهم ذلك اليوم، ثم خرج بهم يوم الخميس وقد عبأ الناس، فجعل في الميمنة خالد بن نهيك بن قيس، وعلى الميسرة عقيل بن شداد السلولي، ونزل هو في الرجالة، وعبر شبيب النهر إليهم، وهو يومئذٍ في مائة وأحد وثمانين رجلاً، فوقف هو في الميمنة وجعل أخاه مصاداً في القلب، وجعل سويد بن سليم في الميسرة، وزحف بعضهم إلى بعض.
وقال شبيب لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري.
وحمل على ميسرة عثمان فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل أيضاً مالك بن عبد الله الهمداني عم عياش بن عبد الله المنتوف، ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها وعليها خالد بن نهيك، فقاتله قتالاً شديداً، وحمل شبيب من ورائه فقتله.
وتقدم عثمان بن قطن وقد نزل معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه مصاد أخو شبيب في نحو من ستين رجلاً، فلما دنا منهم عثمان شد عليهم فيمن معه فضاربوهم حتى فرقوا بينهم، وحمل شبيب بالخيل من ورائهم، فما شعر عثمان ومن معه إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضاً في خيله، ورجع مصاد وأصحابه فاضطربوا ساعةً، وقاتل عثمان بن قطن أحسن قتال، ثم إنهم أحاطوا به وضربه مصاد أخو شبيب ضربة بالسيف استدار لها وقال: {وكان أمر الله مفعولاً} الأحزاب: 37، ثم إن الناس قتلوه ووقع عبد الرحمن، فاتاه ابن أبي سبرة الجعفي، وهو على بغله، فعرفه فأركبه معه ونادى في الناس: الحقوا بدير أبي مريم؛ ثم انطلقا ذاهبين.
ورأى واصل السكوني فرس عبد الرحمن التي أعطاه الجزل تجول في العسكر، فأخذها بعض أصحاب شبيب، فظن أنه قتل فطلبه في القتلى فلم يجده، فسأل عنه فأعطي خبره، فاتبعه واصل على برذونه ومعه غلامه على بغل، فلما دنا منهما نزل عبد الرحمن وابن أبي سبرة ليقاتلا، فلما رآهما واصل عرفهما وقال: إنكما تركتما النزول في موضعه فلا تنزلا الآن! وحسر عمامته عن وجهه فعرفاه، وقال لابن الأشعث: قد أتيتك بهذا البرذون لتركبه، فركبه وسار حتى نزل دير البقار.
وأمر شبيب أصحابه فرفعوا السيف عن الناس ودعاهم إلى البيعة فبايعوه وقتل من كندة يومئذٍ مائة وعشرون، وقتل معظم العرفاء.
وبات عبد الرحمن بدير البقار، فأتاه فارسان فصعدا إليه، فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلاً ثم نزل فتبين أن ذلك الرجل كان شبيباً، وقد كان بينه وبين عبد الرحمن مكاتبة، وسار عبد الرحمن حتى أتى دير أبي مريم، فاجتمع الناس إليه وقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة. فخرج إلى الكوفة واختفى من الحجاج حتى أخذ له الأمان منه.

.ذكر ضرب الدراهم والدنانير الإسلامية:

وفي هذه السنة ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم، وهو أول من أحدث ضربها في الإسلام، فانتفع الناس بذلك.
وكان سبب ضربها أنه كتب في صدور الكتب إلى الروم: {قل هو الله أحد} الإخلاص: 1، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، مع التاريخ، فكتب إليه ملك الروم: إنكم قد أحدثتم كذا وكذا فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكرنا نبيكم ما تكرهون. فعظم ذلك عليه. فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية فاستشاره فيه، فقال: حرم دنانيرهم واضرب للناس سكةً فيها ذكر الله تعالى. فضرب الدنانير والدراهم.
ثم إن الحجاج ضرب الدراهم ونقش فيها: {قل هو الله أحد} فكره الناس ذلك لمكان القرآن لأن الجنب والحائض يمسها، ونهى أن يضرب أحد غيره، فضرب سمير اليهودي، فأخذه ليقتله، فقال له: عيار درهمي أجود من دراهمك فلم تقتلني؟ فلم يتركه، فوضع للناس سنج الأوزان ليتركه فلم يفعل، وكان الناس لا يعرفون الوزن إنا يزنون بعضها ببعض، فلما وضع لهم سيمر السنج كف بعضهم عن غبن بعض.
وأول من شدد في أمر الوزن وخلس الفضة أبلغ من تخليص من قبله عمر بن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك، وجود الدراهم، وخلص العيار واشتد فيه. ثم كان خالد بن عبد الله القسري أيام هشام بن عبد الملك فاشتد أكثر من ابن هبيرة. ثم ولي يوسف بن عمر فأفرط في الشدة، فامتحن يوماً العيار فوجد درهماً ينقص حبة فضرب كل صانع ألف سوط. وكانوا مائة صانع، فضرب في حبة مائة ألف سوط. وكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية، ولم يكن المنصور يقبل في الخراج غيرها، فسميت الدراهم الأولى مكروهة.
وقيل: إن المكروهة الدراهم التي ضربها الحجاج ونقش عليها: {قل هو الله أحد} فكرهها العلماء لأجل مس الجنب والحائض.
وكانت دراهم الأعجام مختلفة كباراً وصارا، وكانوا يضربون مثقالاً، وهو وزن عشرين قيرطاً، ومنها وزن اثني عشر قيراطاً، ومنها وزن عشرة قراريط، وهي أصناف المثاقيل، فلما ضرب الدراهم في الإسلام أخذوا عشرين قيراطاً واثني عشر قيراطاً وعشرة قراريط فوجدوا ذلك اثنين وأربعين قيراطاً فضربوا على الثلث من ذلك، وهو أربعة عشر قيراطاً، فوزن الدرهم العربي أربعة عشر قيراطاً، فصار وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل.
وقيل: إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله بن الزبير، ثم كسرت بعد ذلك أيام عبد الملك.
والأول أصح في أن عبد الملك أول من ضرب الدراهم والدنانير.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة وفد يحيى بن الحكم على عبد الملك. وفيها ولى عبد الملك المدينة أبان بن عثمان. وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان. وأقام الحج للناس هذه السنة أبان بن عثمان، وهو أمير المدينة. وكان على العراق الحجاج، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى. وفيها غزا محمد بن مروان الروم من ناحية ملطية. وفيها مات حبة بن جوين العرني صاحب علي.
حبة بالحاء المهملة، وبالباء الموحدة، وهو منسوب إلى عرنة، بالعين المهملة المضمومة، والراء المهملة، والنون. ثم دخلت:

.سنة سبع وسبعين:

.ذكر محاربة شبيب عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوية وقتلهما:

وفي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية.
وسبب ذلك أن شبيباً لما هزم الجيش الذي كان وجهه الحجاج مع عبد الرحمن بن محم بن الأشعث، وقتل عثمان بن قطن، كان ذلك في حر شديد، وأتى شبيب ماه بهراذان فصيف بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا وممن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تبعات. فلما ذهب الحر خرج شبيب في نحو ثمانمائة رجل فأقبل نحو المدائن، وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة، فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان، فكتب عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج بذلك، فلما قرأ الكتاب قام في الناس فقال: أيها الناس لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأصبر على اللأواء والقيظ منكم فيقاتلون عدوكم ويأكلون فيئكم.
فقام إليه الناس من كل جانب ومكان فقالوا: نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فلتند بن الأمير إليهم. وقام إليه زهرة بن حوية، وهو شيخ كبير لا يستتم قائماً حتى يؤخذ بيده، فقال له: أصلح الله الأمير أنك إنما تبعث إليهم الناس منقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة وابعث إليهم رجلاً شجاعاً مجرباً ممن يرى الفرار هضماً وعاراً، والصبر مجداً وكرماً. فقال الحجاج: فأنت ذلك الرجل فاخرج. فقال زهرة: أصلح الله الأمير، إنما يصلح الرجل يحمل الدرع والرمح ويهز السيف ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئاً، وقد ضعف بصري وضعفت، ولكن أخرجني مع الأمير في الناس فأكون معه وأشير عليه برأيي. فقال الحجاج: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله في أول أمرك وآخره، فقد نصحت. ثم قال: أيها الناس سيروا بأجمعكم كافة.
فانصرف الناس يتجهزون ولا يدرون من أميرهم. وكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره أن شبيباً قد شارف المدائن وأنه يريد الكوفة وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، يقتل أمراءهم ويهزم جنودهم؛ ويطلب إليه أن يبعث إليه جنداً من الشام يقاتلون الخوارج ويأكلون البلاد.
فلما أتى الكتاب بعث إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي في أربعة آلاف، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ألفين. فبعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي، وهو مع المهلب، يستدعيه، وكان عتاب قد كتب إلى الحجاج يشكو من المهلب ويسأله أن يضمه إليه لأن عتاباً طلب من المهلب أن يرزق أهل الكوفة الذين معه من مال فارس، فأبى عليه وجرت بينهما منافرة فكادت تؤدي إلى الحرب، فدخل المغيرة بن المهلب بينهما فأصلح الأمر وألزم أباه برزق أهل الكوفة، فأجابه إلى ذلك، وكتب يشكو منه.
فلما ورد كتابه سر الحجاج بذلك واستدعاه، ثم جمع الحجاج أهل الكوفة واستشارهم فيمن يوليه أمر الجيش، فقالوا: رأيك أفضل. فقال: قد بعثت إلى عتاب وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة. فقال زهرة: أيها الأمير رميتهم بحجرهم، والله لا نرجع إليك حتى نظفر أو نقتل.
وقال له قبيصة بن والق: إن الناس قد تحدثوا أن جيشاً قد وصل إليك من الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وهان عليهم الفرار، فقلوبهم كأنها ليست فيهم، فإن رأيت أن تبعث إلى أهل الشام ليأخذوا حذرهم ولا يبيتوا إلا وهم محتاطون فإنك تحارب حولاً قلباً ظعاناً رحالاً، وقد جهزت إليهم أهل الكوفة ولست واثقاً بهم كل الثقة، وإن شبيباً بينا هو في أرض إذا هو في أخرى، ولا آمن أن يأتي أهل الشام وهم آمنون، فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق.
قال له: لله أبوك ما أحسن ما أشرت به! وأرسل إلى أهل الشام يحذرهم ويأمرهم أن يأتوا على عين التمر، ففعلوا.
وقدم عتاب بن ورقاء تلك الليلة، فبعثه الحجاج على ذلك الجيش، فعسكر بحمام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذى فقطع فيها دجلة، ثم سار حتى نزل مدينة بهرسير الدنيا، فصار بينه وبين مطرف جسر دجلة وقطع مطرف الجسر وبعث إلى شبيب أن ابعث إلي رجالاً من وجوه أصحابك أدراسهم القرآن وأنظر فيما يدعون إليه، فبعث إليه قعنب بن سويد والمحلل وغيرهما، وأخذ منه رهائن إلى أن يعودوا، فأقاموا عنده أربعة أيام ثم لم يتفقوا على شيء. فلما لم يتبعه مطرف تهيأ للمسير إلى عتاب وقال لأصحابه: إني كنت عازماً أن آتي أهل الشام جريدةً وألقاهم على غرة قبل أن يتصلوا بأمير مثل الحجاج ومصر مثل الكوفة، فثبطني عنهم مطرف، وقد جاءتني عيوني فأخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وقد أخبروني أن عتاباً ومن معه بالبصرة، فما أقرب ما بيننا وبينه، فتيسروا للمسير إلى عتاب.
وخاف مطرف بن المغيرة أن يبلغ خبره مع شبيب إلى الحجاج، فخرج نحو الجبال. فأرسل شبيب أخاه مصاداً إلى المدائن وعقد الجسر، وأقبل عتاب إليه حتى نزل بسوق حكمة، وقد خرج معه من المقاتلة أربعون ألفاً، ومن الشباب والأتباع عشرة آلاف، فكانوا خمسين ألفاً، وكان الحجاج قد قال لهم حين ساروا: إن للسائر المجتهد الكرامة والأثرة، وللهارب الهوان والجفوة، والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذه المواطن كفعلكم في المواطن الأخر لأولينكم كنفاً خشناً، ولأعركنكم بكلكل ثقيل.
فلما بلغ عتاب سوق حكمة أتاه شبيب، وكان أصحابه بالمدائن ألف رجل، فحثهم على القتال، وسار بهم، فتخلف عنه بعضهم، ثم صلى الظهر بساباط وصلى العصر وسار حتى أشرف على عتاب وعسكره، فلما رآهم نزل فصلى المغرب، وكان عتاب قد عبأ أصحابه، فجعل في الميمنة محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال: يا ابن أخي إنك شريف صابر. فقال: والله لأصبرن ما ثبت معي إنسان. وقال لقبيصة بن والق الثعلبي: اكفني الميسرة. فقال: أنا شيخ كبير لا أستطيع القيام إلا أن أقام؛ فجعل عليها نعيم بن عليم، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعي، وهو ابن همه وشيخ أهل بيته، على الرجالة، وصفهم ثلاثة صفوف: صف فيهم أصحاب السيوف، وصف فيهم أصحاب الرماح، وصف فيهم الرماة، ثم سار في الناس يحرضهم على القتال ويقص عليهم، ثم قال: أين القصاص؟ فلم يجبه أحد. ثم قال: أين من يروي شعر عنترة؟ فلم يجبه أحد. فقال: إنا لله، كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح!
ثم أقبل حتى جلس في القلب ومعه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وأبو بكر بن محمد بن أبي جهم العدوي. وأقبل شبيب وهو فس ستمائة وقد تخلف عنه من أصحابه أربعمائة، فقال: لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا، فجعل سويد بن سليم في مائتين في الميسرة، وجعل المحلل بن وائل في مائتين في القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟ فقالوا: رايات لربيعة. قال: طالما نصرت الحق وطالما نصرت الباطل، والله لأجاهدنكم محتبساً، أنا شبيب، لا حكم إلا الله، للحكم، اثبتوا إن شئتم! ثم حمل عليهم ففضهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم فقتلوا، وانهزمت الميسرة مكلها، ونادى الناس من بني ثعلبة: قتل قبيصة وقال شبيب: قتلتموه، ومثله كما قال الله تعالى: {واتل عليهم نبا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} الأعراف: 175. ثم وقف عليه وقال: ويحك لو ثبت على إسلامك الأول سعدت! وقال لأصحابه: إن هذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، ثم جاء يقاتلكم مع الفسقة.
ثم إن شبيباً حمل من المسيرة على عتاب، وحمل سويد بن سليم على الميمنة، وعليهما محمد بن الرحمن، فقاتلهم في رجال من تميم وهمدان، فما زالوا كذلك حتى قيل لهم قتل عتاب، فانفضوا.
ولم يزل عتاب جالساً على طنفسة في القلب ومعه زهرة بن حوية إذ غشيهم شبيب، فقال عتاب: يا زهرة هذا يوم كثر فيه العدد وقل فيه الغناء، والهفي على خمسمائة فارس من تميم من جميع الناس، ألا صابر لعدوه؟ ألا مواس بنفسه؟ فانفضوا عنه وتركوه، فقال زهرة: أحسنت يا عتاب، فعلت فعلاً لا يفعله مثلك. أبشر، فإني أرجو أن يكون الله، جل ثناؤه، قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا.
فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة قليلة صبرت معه وقد ذهب الناس، فقيل له: إن عبد الرحمن بن الأشعث قد هرب وتبعه ناس كثير. فقال: ما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع. ثم قاتلهم ساعة، فرآه رجل من أصحاب شبيب يقال له عامر بن عمر التغلبي فحمل عليه فطعنه، ووطئت الخيل زهرة بن حوية، فأخذ يذب بسيفه لا يستطيع أن يقوم، فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله، فانتهى إليه شبيب فرآه صريعاً فعرفه فقال: هذا زهرة بن حوية، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك وعظم فيه غناؤك! ولرب خيل للمشركين هزمتها وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها! ثم كان في علم الله أنك تقتل ناصراً للظالمين. وتوجع له. فقال له رجل من أصحابه: إنك لتتوجع لرجل كافر. فقال إنك لست أعرف بضلالتهم مني، ولكني أعرف من قديم أمرهم ما لا تعرف، ما لو ثبتوا عليه لكانوا إخواننا.
فاستمسك شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا السيف، ودعاهم إلى البيعة، فبايعه الناس وهربوا من تحت ليلتهم، وحوى ما في العسكر، وبعث إلى أخيه فأتاه من المدائن. وأقام شبيب بعد الوقعة ببيت قرة يومين، ثم سار نحو الكوفة فنزل بسورا وقتل عاملها.
وكان سفيان بن الأبرد وعسكر الشام قد دخلوا الكوفة فشدوا ظهر الحجاج واستغنى به وبعسكره عن أهل الكوفة، فقام عن المنبر فقال: يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا، انزلوا بالحيرة مع اليهود والنصارى ولا يقاتل معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب.

.ذكر قدوم شبيب الكوفة وانهزامه عنها:

ثم سار شبيب من سورا فنزل حمام أعين، فدعا الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي فوجهه في ناس من الشرط لم يشهدوا يوم عتاب وغيرهم، فخرج في نحو ألف فنزل زرارة، فبلغ ذلك شبيباً فعجل إلى الحارث بن معاوية، فلما انتهى إليه حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه، وجاء المنهزمون فدخلوا الكوفة، وجاء شبيب فعسكر بناحية الكوفة وأقام ثلاثاً، فلم يكن في اليوم الأول غير قتل الحارث.
فلما كان اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه فأخذوا بأفواه السكك، وجاء شبيب فنزل السبخة وابتنى بها مسجداً، فلنا كلن اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولاه عليه تجفاف ومعه غلمان له وقالوا: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم أخرج الحجاج غلامه طهمان في مثل تلك العدة والحالة، فقتله شبيب وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم أن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر فطلب بغلاً يركبه إلى السبخة فأتي ببغل، فركبه ومعه أهل الشام، فخرج، فلما رآى الحجاج شبيباً وأصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائة فارس، فأقبل نحو الحجاج، وجعل الحجاج، وجعل الحجاج سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف على أفواه السكك في جماعة الناس، ودعا الحجاج بكرسي فقعد عليه ثم نادى: يا أهل الشام أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين فلا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب واستقبلوهم بأطراف الأسنة. ففعلوا وأشرعوا الرماح، وكأنهم حرة سوداء، وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس، كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلل بن وائل، وقال لسويد: احمل عليهم في خيلك، فحمل عليهم، فثبتوا له ووثبوا في وجهه بأطراف الرماح فطعنوه حتى انصرف هو وأصحابه.
وصاح الحجاج: هكذا فافعلوا، وأمر كرسيه فقدم، وأمر شبيب المحلل فحمل عليهم ففعلوا به كذلك، فناداهم الحجاج: هكذا فافعلوا، وأمر بكرسيه فقدم.
ثم إن شبيباً حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له وصنعوا به كذلك، فقاتلهم طويلاً، ثم إن أهل الشام طاعنوه حتى ألحقوه بأصحابه. فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد احمل عليهم بأصحابك على أهل السكة لعلك تزيل أهلها وتأتي الحجاج من ورائه ونحمل نحن عليه من أمامه. فحمل سويد فرمي من فوق البيوت وأفواه السكك فرجع. وكان الحجاج قد جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءاً له لئلا يؤتوا من خلفهم، فجمع شبيب أصحابه ليحمل بهم، فقال الحجاج: اصبروا لهذه الشدة الواحدة ثم هو الفتح، فجثوا على الركب.
وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه، فوثبوا في وجهه، وما زالوا يطاعنونه ويضاربونه قدما ويدفعونه وأصحابه حتى أجازوهم مكانهم، وأمر شبيب أصحابه بالنزول، فنزل نصفهم، وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبيب ثم قال: يا أهل الشام هذا أول الفتح، وصعد المسجد ومعه جماعة معهم النبل ليرموهم إن دنوا منه، فاقتتلوا عامة النهار أشد قتال رآه الناس حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه.
ثم إن خالد بن عتاب قال للحجاج: ائذن لي في قتالهم فإني موتور، فأذن له، فخرج ومعه جماعة من أهل الكوفة وقصد عسكرهم من ورائهم فقتل مصاداً أخا شبيب وقتل إمرأته غزالة وحرق في عسكره. وأتى الخبر الحجاج وشبيباً، فكبر الحجاج وأصحابه، وأما شبيب فركب هو وأصحابه، وقال الحجاج لأهل الشام: احملوا عليهم فإنهم قد أتاهم ما أرعبهم. فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس. فبعث الحجاج إلى خيله: أن دعوه، فتركوه ورجعوا، ودخل الحجاج إلى الكوفة فصعد المنبر ثم قال: والله ما قوتل شبيب قبلها، ولى والله هارباً وترك امرأته يكسر في استها القصب. ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي فبعثه في ثلاثة آلاف فارس من أهل الشام في أثر شبيب، وقال له: احذر بياته وحيث لقيته فانزل له، فإن الله تعالى قد فل حده وقصم نابه.
فخرج في أثره حتى نزل الأنبار، وكان الحجاج قد نادى عند انهزامهم: من جاءنا منكم فهو آمن. فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه. فلما نزل حبيب الأنبار أتاهم شبيب، فلما دنا منهم نزل فصلى المغرب، وكان حبيب قد جعل أصحابه أرباعاً، وقال لكل ربع منهم: ليمنع كل ربع منكم جانبه، فإن قاتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر، فإن الخوارج قريب منكم، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون.
فأتاهم شبيب وهم على تعبية، فحمل على ربع فقاتلهم طويلاً، فما زالت قدم إنسان عن موضعها، ثم تركهم وأقبل إلى ربع آخر فكانوا كذلك، ثم أتى ربعاً آخر فكانوا كذلك، ثم الربع الرابع فما برح يقاتلهم حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، ثم نازلهم راجلا فسقطت منهم الأيدي وكثرت القتلى وفقئت الأعين وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين رجلاً، ومن أهل الشام نحو مائة، واستولى التعب والإعياء على الطائفتين حتى إن الرجل ليضرب بسيفه فلا يصنع شيئاً، وحتى إن الرجل ليقاتل جالساً فما يستطيع أن يقوم من التعب.
فلما يئس شبيب منهم تركهم وانصرف عنهم. ثم قطع دجلة وأخذ في أرض جوخى، ثم قطع دجلة مرة أخرى عند واسط ثم أخذ نحو الأهواز ثم إلى فارس ثم إلى كرمان ليستريح وهو ومن معه.
وقيل في هزيمته غير ذلك، وهو أن الحجاج كان قد بعث إلى شبيب أميراً فقتله، ثم أميراً فقتله، أحدهما أعين صاحب حمام أعين، ثم جاء شبيب حتى دخل الكوفة ومعه زوجته غزالة، وكانت نذرت أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران، واتخذ في عسكره اخصاصاً، فجمع الحجاج ليلاً بعد أن لقي من شبيب الناس ما لقوا فاستشارهم في أمر شبيب، فأطرقوا، وفصل قتيبة من الصف فقال: أتأذن لي في الكلام؟ قال: نعم. قال: لأنك تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعاً فينهزمون ويستحيي أن ينهزم فيقتل. فقال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تخرج إليه فتحاكمه. قال: فانظر لي معسكراً.
فخرج الناس يلعنون عنبسة بن سعيد لأنه هو الذي كلم الحجاج فيه حتى جعله من صحابته، وصلى الحجاج من الغد الصبح واجتمع الناس وأقبل قتيبة وقد رأى معسكراً حسناً، فدخل إلى الحجاج ثم خرج ومعه لواء منشور، وخرج الحجاج يتبعه حتى خرج إلى السبخة وبها شبيب، وذلك يوم الأربعاء، فتواقفوا، وقيل للحجاج: لا تعرفه مكانك، فأخفى مكانه، وشبه له أبا الورد مولاه، فنظر إليه شبيب فحمل عليه فضربه بعمود فقتله، وحمل شبيب على خالد بن عتاب ومن معه وهو على ميسرة الحجاج فبلغ بهم الرحبة، وحمل على مطر بن ناجية وهو على ميمنة الحجاج فكشفه، فنزل عند ذلك الحجاج ونزل أصحابه وجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد، فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلهل الضبي لجام شبيب وقال: ما تقول في صالح. فقال له مصقلة: برئ الله منك، وفارقه إلا أربعين فارساً. فقال الحجاج: قد اختلفوا، وأرسل إلى خالد بن عتاب فأتى بهم في عسكرهم فقاتلهم فقتلت غزالة، ومر برأسها إلى الحجاج مع فارس، فعرفه شبيب فأمر رجلاً فحمل على الفارس فقتله وجاء بالرأس، فأمر به فغسل ثم دفنه.
ومضى القوم على حاميتهم ورجع خالد فأخبر الحجاج بانصرافهم، فأمره باتباعهم، فاتبعهم يحمل عليهم، فرجع إليه ثمانية نفر فقاتلوه حتى بلغوا به الرحبة، وأتي شبيب بخوط بن عمير السدوسي فقال: يا خوط لا حكم إلا الله. فقال: إن خوطاً من أصحابكم ولكنه كان يخاف، فأطلقه؛ وأتي بعمير بن القعقاع فقال: يا عمير لا حكم إلا الله. فقال: في سبيل الله شبابي، فردد عليه شبيب: لا حكم إلا الله، فلم يفقه ما يريد، فقتله.
وقتل مصاد أخو شبيب، وجعل شبيب ينتظر الثمانية الذين اتبعوا خالداً، فأبطأوا ولم يقدم أصحاب الحجاج على شبيب هيبةً له، وأتى إلى شبيب أصحابه الثمانية فساروا واتبعهم خالد وقد دخلوا إلى دير بناحية المدائن فحصرهم فيه، فخرجوا عليه فهزموه نحو فرسخين فألقوا أنفسهم في دجلة منهزمين وألقى خالد بن عتاب. فقال: معرق له في الشجاعة، ولو عرفته لأقحمت خلفه ولو دخل النار. ثم سار إلى كرمان، على ما تقدم ذكره، وكتب الحجاج إلى عبد الملحك يستمده ويعرفه عجز أهل الكوفة عن قتال شبيب، فسير سفيان بن الأبرد في جيش إليه.